خواطر طبيب
من قتل نورا؟ ربما انت!!
بقلم✍? علي بلدو
في يونيو من العام 1962م و في الجانب الغربي من منطقة ميدان عقرب الحالي و تحت شجرة ظليلة وارفة الاشجار و يداعبها النسيم من كل جانب’ جلست سيدة ثلاثينية بارعة الحسن و الجمال و تتمتع بطلاوة الكلام و حلاوة المنطق مع دلال باد للعيان و غنج لا يمكن ان يفوت على كل من له قلب او القى السمع و هو شهيد,و كانت تمتهن تجارة بسيطة في سوق صغير لبيع الملابس النسائية المستعملة و العطور و الزينة و الحنة و غيرها من مستلزمات نساء ذلك الزمان.
جاءت نورا , و هذا اسمها حسب افادتها, للسوق من رحم الغيب و لم يعرف احد لها اسرة او اهل و لا حبيب و لا قريب و كانها من قيل فيه:
جئت لا اعلم من اين و لكني اتيت
ووجدت قدامي طريقا فمشيت
كيف جئت
كيف ابصرتُ طريقي
لستُ ادري!
و لكن طريق نورا كان مفروشا بالجماجم و الدماء و التي سوف تسيل من السوق في بحرى و حتى النيل.
جاري و انا جارو
جلست نورا الي جوار بائعات البهارات و الويكة و الشطة و بائعات الكسرة و كانت نعم الصديقة و الجارة لهم, من حيث حسن التعامل و مساعدة المحتاجات منهن, اضافة الي شئ هام و هو ان جمالها الفاتن و جسدها الباهر ووجهها الزاهر كان سببا في تدافع الزبائن و الموظفين لهذه الناحية من السوق و شراء ما يحتاجونه و ما لا يحتاجونه’ املا في نظرة من عيني نورا القاتلتين و اللتين تقعان كسهام حارقة لتشعل نار الجوى و حرائق الهوى في نفس من تقع عليه و ما اكثرهم يومها’ و من هنا اشتهرت ياسم( نورا السمحة لون القمحة).
حاجات تانية حامياني
على الرغم من جمال نورا ست السماحة الطاغي الا انها تميزت بصفة عجيبة و هي كونها كانت صارمة للغاية في التعامل مع اي اشارات غير كريمة من جانب الرجال او اي ايحاءات غزلية او دعوات للفجور و ما اكثر ما تلقت منها و كان مشهودا لها و هي تقف بقوامها الفارع و هي تقول مشيرة باصبعها السحري الي احد الزبائن المتفلتيين:
(هووي يا راجل اعمل حسابك’ نحن بنات ناس بس الظروف معاكسانا)
و بالرغم من احدا لم يتعرف الي اليوم على هؤلاء الناس الذين زعمت نورا انها منهم الا انها حظيت باحترام الجميع و تقدير نسوة المدينة حينها’ مما زادها اجلالا فوق جمالها و اصبحت مطلبا لكل رجل.
يا غالية يا ست الحسان
عاد التاجر عثمان جبوكس من رحلته في الجنوب و قادته قدماه لمكان تواجد نورا ست السماحة و من اول نظرة رشقته بسهامها الجارحة ’ صار حاله يغني عن سؤاله:
لها مقلة لو انها نظرت بها الي راهب قد صام لله و ابتهل
لاضحى صريعا معنى بحبها كان لم يصم لله يوما و لم يصل
و لم يكن الشاب جبوكس راهبا و لا متبتلا و لا صائما ’ بل كان مثل اقرانه مغترفا من متع الدنيا الى منتهاها.
و جرجر قدميه نحوها طالبا يدها’ فردت عليه:
(انت جادي و لا دي حركات جديدة يا رجال انتو)
(جادي’ و بسكنك احسن سكنة و ما بقصر معاك)
و كون نورا ست السماحة كانت حادة الذكاء فقد التمست فيه الصدق ووافقت من فورها لتتخلص من جحيم الحياة اليومية و معاكسات الرجال’
و هنا باغتها جبوكس بقوله:
( لكن عندي شرط)
(شنو)
0( تخلي الشغل نهائي و تقعدي في بيتك)
و هكذا غادرت نورا ست السماحة مكانها القديم في السوق للمرة الاخيرة للانتقال لبيت الزوجية في اغسطس 1962م
وسط دموع و عناق رفيقاتها من البائعات.
تجي الاقدار تمد ييدا
في اليوم الثالث من زواج نورا ست السماحة و عثمان جبوكس و هم في منزلهم بحي البوستة بام درمان و رائحة البخور و الدخان تعبق الارجاء ’ سمع سكان الحي صوت نورا عاليا يشق الارجاء(الحقوني عثمان وقع)’ ليهرع الناس الي الداخل و يجدوا زوجها في غياهب بئر تحت التشييد في المنزل و قد قضى نحبه.
تم ابلاغ الشرطة و التى حرزت المكان و قامت بتحرياتها و اخطرتهم نورا ان زوجها لم يقع في البئر من تلقاء نفسه بل هناك من دفعه ليلقى مصرعه و بالتالي اصبحت الشرطة امام جريمة قتل ’ و لكن من هو؟؟
طويل كده اخدراني
اخطرت نورا ست السماحة ان شخصا طويل القامة’ اخدر اللون’ قوي البنية و مفتول العضلات كان قد حضر اليها في السوق قبل مدة طالبا يدها ’ و لكنها رفضته’ و هنا اخبرها حسب اقوالها في يومية التحري في الصفحة الثانية:
(خلاص لو ما عرستيني زول بعرسك و بتهنى بيك مافي)
و ادعت انه حضر لمنزلها و قام بحمل زوجها جبوكس و القاءه في البئر.
و تم البحث عن هذا الشخص المزعوم دون جدوى و في النهاية دونت القضية ضد مجهول.
العيون الشافتك ما اسعدها
كان جابر صاحب عربة نقل تجاري يعمل بها في السوق و عندما علم بما حدث لنورا ست السماحة و كونها اصبحت ثرية بعد ان ورثت زوجها الاول ’ تقدم للزواج منها ووافقت هي بعد وساطات و اجاويد’ و لكنها قالت له في اول ايام شهر عسلهما والذي لم يستمر:
(انا خايفه عليك)
(من شنو يا نورا انا ما جنبك)
و ردت هي بعد تنهد و زفرات حرى خرجت من جوفها و كانها لظى:
(الراجل الاخضر ما بخليك)
و هنا اخرج جابر سكينا و ساطورا و هو يلوح بهما قائلا
(خليهو يجي ’ كان ما ضبحتو ليك و علقتو ليك في الشجرة دي)
و لسخرية الاقدار فقد تم العثور على المرحوم جاير مقتولا و مذبوحا بساطوره و سكينه و معلقا على شجرة منزله بعده بيوم واحد’ و اتهمت نورا ست السماحة الرجل الاخدر بذلك’ و كالعادة و بعد بحث و تحريات و تحقيق’ قيدت الشرطة الجريمة ضد مجهول تحت المادة 251م من قانون العقوبات السوداني , حسب توجيه قاضي التحقيق حينها.
المطر و الحراز
بدا الناس يتحدثون عن نورا و كونها عارض و نذير شؤم لموت ازواجها فورا و عدم انجابها منهم. و تحملت ذلك بصبر و جلد’ و الغريب انه و برغم ذلك فان سيل العشاق و الخطاب لم ينقطع عنها و لو لحظة واحدة’فكان الصبر على جمالها الاخاذ و قوامها الممشوق هو الموت بعينه عند الكثيرين ممن شاهدوها’ متمثلين قول الاعشى:
ودع هريرة ان الركب مرتحل و هل تطيق فراقا ايها الرجل
قالت هريرة لما جئت خاطبها ويلي عليك وويلي منك يا رجل
و هذا اما انطبق على زوجها الثالث و الذي يعرف ب حسان العجلاتي.
(انا خايفه عليك يكتلك زي ما كتل الباقيين)
(خليني اعرسك يومين بس ’ و بعد داك كان كتلني خليهو اليكتلني)
قالها حسان و هو يضحك و لم يكن يدري و انه بعد ثلاثة ايام فقط و الناس يستعدون لعيد الاضحى في العام 1964م انه سيكون كبشا للرجل الاخضر و الذي ادعت نورا السمحة لون القمحة في اقوالها للشرطة انه من قتل حسان حرقت بالنار و هو نائم’ قائلا لها (
(انا حاحرق قلبك عليهو زي ما حرقتي قلبي ده يا نورا يا حبيبتي) و فر بعدها هاربا ’ ليكون تقييد القضية ضد مجهول ايضا.
صدى الذكرى
تزوجت نورا ست السماحة للمرة الرابعة من تاجر محاصيل يعمل ما بين القضارف و الخرطوم و بعد يومين من زواجهما غير الميمون’ ادخلت نورا المستشفى في الخرطوم القسم الجنوبي للعلاج من التهاب المرارة’ و قام بعلاجها اخصايئ جراحة شهير قضى نحبه قبل سنوات قليلة من الان’ و قيل و العهدة على الراوي انه طلب ان يتزوجها قبل ان تخبره انها على ذمة شخص اخر.
و اثناء بقاء نورا السمحة لون القمحة للعلاج ’ نعى الناعي زوجها و الذي وجد ميتا في غرفة نومه بسبب تسرب غاز سام كما اثبت في مضابط الشرطة و كالعادة اتهمت نورا ذلك الرجل الاخضر بانه من قتله ’ بينما قيدت الشرطة الجريمة ضد مجهول.
قصر الشوق و اتهدا
اصبحت نورا بعد ان ورثت ازواجها ’ سيدة واسعة الثراء’ رغم اقاويل الناس عنها’ و كانت تقول
(ربنا اداني رجال بعرسوني و بموتوا و بورثهم ’ انا ذنبي شنو)
لم يتقدم احد لخطبة نورا مجددا ’ و ظلت هي في حالة خوف من الرجل الاخضر و تعيش في هلع شديد ’ الي ان اصيبت بانهيار عصبي حاد نتيجة لهذا الخوف’ و نسبة لانه لا اهل لها فقد تم ادخالها المصحة النفسية للعلاج من الخوف و تلف الاعصاب’ و هناك في شتاء السودان الطويل من العام 1967م و ليله الطويل و بينما يتنفس الصبح و كان عرائس الصبح بنات ليل يطارحهن الهوى اشباح الظلام’ في تلك الليلة دبت مشاجرة بين نورا و احدى النزيلات بعد ان قامت النزيلة بسب نورا قائلة لها( انتي نورا ال 00000)
و ردت نورا (انا ستهم كلهم) ليتشاجرا و تلقى نورا جرحا غائراً ادى لنقلها للمستشفى’ و هناك و غياهب الليل البهيم و كأنه ليل امرئ القيس :
الا يا ايها الليل الطويلُ الا انجلي
بصبح و ما الاصباحُ منك بأمثل
حيث قال الناس ان شخصاً قد تسلل الي غرفتها في المستشفى و قام بقتلها و طعنها بنصل حاد لم يصب منها الا قلبها فقط واودى بحياتها’ مأسوفاً على شبابها الغضٌ و هي في شرخ الصبا و عنفوان العمر.
و لم يُعثر له على اثر.
زولي الاخدر
قُتلت نورا غيلةً و عمر ها سبع و ثلاثين عاما و لم يعرف احد غيرها من هو ذلك الرجل الاخضر الذي قام بقتل خمسة من المواطنين السودانيين و لم يلق عقابا او يتعرف عليه احد و تسبب بصورة غير مباشرة في وفاة نورا خوفا و الما و مرضا’ و من سخرية الاقدار انه انتشرت الان اغاني كثيرة عن الرجل الاخضر و افلام تمجده, .
و لعل الاعين الوحيدة التي رأته هي اعين نورا القتيلة قبل ان تغمض اغفاءتها الاخيرة و لتنطبع تلك الصورة لذلكم السفاح في مقلتيها الجميلتين ’ و تكون اخر من تراه و ما تراه هي صورة شخص احبها و قتل كل من احبها غيره و في خاتمة المطاف انتزع قلبها بعد ان طعنه و لم يُعثر له على اثر الي الان .
و لكن يبقى السؤال سادتي :هل لازال الرجل الاخضر بيننا’ ربما نعم .لكونه حسب اقوال نورا للمتحري حينها في اليومية فانه كان في حوالي العشرين من عمره حينها وقت ارتكاب سلسلة جرائمه’ و عليه م من خلال البحث في ملف القضية فانه يمكنني ان اقول ان احتمال وجود اول قاتل متسلسل سوداني بيننا كبير للغاية للان و ربما يكون يطالع في هذا المقال الان’ و لربما كان يكتب معنا هنا ايضاً’’ فلا تتعجبوا:
لكل شئ اذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش انسان
هي الامور كما جربتها دول من سره زمن ساءته ازمان
و عليه و في الختام ’ استميحك سيدي القارئ و الكاتب عُذرا و لكن : هل انت طويل كده اخدراني؟